لطالما تسببت التكنولوجيا بإرباك عدة ميادين صناعية حول العالم وفي مقدمتها ميدان تجارة التجزئة. فبدءاً من التسويق الشخصي وصولاً إلى الأتمتة والتجارة الإلكترونية، كانت المكاسب الناتجة عن ذلك كبيرة. إذ سمحت التجربة الرقمية للمتسوقين باتخاذ خيارات أكثر اطلاعاً. وأصبح لدى المستهلكين وسيلة لتحديد أفضل المنتجات الملبية لاحتياجاتهم بدءاً من المراجعات عبر الإنترنت إلى الشبكات الاجتماعية، إلى جانب وجود خط مباشر للعلامات التجارية عبر منصات مثل فيسبوك وإنستغرام الأمر الذي يُمكِّن المستهلكين من التواصل الفوري ويحسن بالتالي مجمل تجربة تسوقهم وخدمات ما بعد الشراء. ومن جهة أخرى، يمكن للعلامات التجارية أن ترتقي بخطوط منتجاتها وطرق التوصيل وغير ذلك من خلال معرفةٍ أفضل لسلوك المستهلك بفضل البيانات الضخمة. وفي ضوء هذه الابتكارات، يجني تجار التجزئة المال. واليوم يصل متوسط إنفاق زبائن التجارة الإلكترونية في الولايات المتحدة قرابة 1800 دولار أمريكي في العام، ومن المتوقع أن تصل مبيعات التجارة الإلكترونية العالمية بالتجزئة إلى 4.5 تريليون دولار بحلول عام 2021. إذن ما الذي يمكن أن نتوقعه في السنوات المقبلة في ظل مواصلة المزيد من الابتكارات التكنولوجية إحداث ثورة في تجربة التسوق؟
لم يعد المستهلكون في العديد من الحالات بحاجة إلى زيارة متجر فعلي في ظل توفر العديد من المنتجات في متاجر الإنترنت، وأمازون خير الأمثلة الشاهدة على ذلك. ففي عام 2017، استحوذت أمازون على 44% من مبيعات التجارة الإلكترونية في الولايات المتحدة؛ أي ما يعادل 4% من إجمالي مبيعات التجزئة في البلاد. وفي هذه الأثناء، تم إغلاق مجموعة كبيرة تناهز سبعة آلاف مخزن في كافة أنحاء البلاد في حين كابد تجار التجزئة الآخرون عناء المنافسة. تأثرت متاجر التجزئة متعددة الأقسام بصورة خاصة إضافة إلى متاجر التجزئة المتخصصة مثل (Gap) و (The Footlocker). لقد ولت الأيام التي كان بوسع تاجر التجزئة فيها أن يكدس رفوف متجره ويتوقع تدفق المستهلكين عبر الباب.
أصبحت البصمة الرقمية للعلامة التجارية في حد ذاتها أمراً مهماً لنجاحها، وأضحت تشكل مع العلامة التجارية نهج تسويق متعدد القنوات. نهج متعدد القنوات يوفر للزبائن تجربة تسوق متكاملة، والأمر الأساس للتسويق متعدد القنوات هو تقديم منتجات علامة تجارية ما، والمراسلة بسلاسة عبر أصولها الرقمية سواء أكانت عبارة عن وسائل تواصل اجتماعي أو مواقع تجارة إلكترونية أو مدونات. وبدءاً من تسويق منتجاتك وصولاً إلى خدمات المبيعات والزبائن، يجب مواءمة الأهداف والغايات على امتداد كل قناة من تلك القنوات. وبالقيام بذلك، سيتاح للزبائن سهولة الوصول إلى منتجاتك وخدماتك الأمر الذي يسهل تجربتهم. وسواء اكتشفوا منتجاً يرغبون فيه في متجرك وقاموا بتفحص الباركود لمزيد من المعلومات، أو اطلعوا عليه عبر الإنترنت، سيكون لديهم في كلتا الحالتين إمكانية الوصول إلى المعلومات التي يحتاجونها لاتخاذ قرار بشأن مشترياتهم إضافة إلى القدرة على طلب المنتج بأي طريقة يريدون. تعد ديزني من أفضل الأمثلة على تجربة التسوق المتعددة القنوات في يومنا هذا. فبفضل تطبيقهم، يمكنك شراء التذاكر عبر الإنترنت، وتحميل تذكرة المسار السريع للدخول، وتحديد موقع شخصيات ديزني على خريطة تفاعلية حية، والحصول على الصور الملتقطة في منتزه العرض على هاتفك. ومن خلال تجربة التسوق المتعدد القنوات التي تشجع عملاءك على قضاء ما يصل إلى 4% من الوقت في المتجر و 10% من الوقت عبر الإنترنت، يعتبر التسويق المتعدد القنوات حاجة ماسة في بيئة البيع بالتجزئة المتسمة بالتنافس الشديد في عالم اليوم.
وفي ظل بيئة أكثر تنافساً بالنسبة لتجار التجزئة، يجدر بنا قول بضعة كلمات حول تجار التجزئة العاملين في قطاع التجارة الإلكترونية و اللذين يستهدفون قطاعات متخصصة. فعلى سبيل المثال، يعد بيع منتجات غير عادية أو حصرية مثل السلع الفاخرة أو الملابس ذات الحجم الكبير إستراتيجية رابحة بالنسبة للكثيرين. ففي ظل قدر أقل من المنافسة، ثمة عوامل جذب رئيسية منها قدرة أكبر على الحد من الجلبة فيما يتصل بالتسويق الرقمي ومحركات البحث، وعائد أكبر على الإنفاق الإعلاني بفضل منصات الإعلان المتخصصة والولاء الأكبر بين العملاء. ومن القطاعات المتخصصة المتوقع أن تستفيد خلال السنوات القادمة، قطاع صناعة الملابس ومستحضرات التجميل والزهور والهدايا والمستلزمات الحرفية وألعاب الفيديو.
هنالك اتجاه آخر تجدر مراقبته هو الذكاء الاصطناعي أو (AI)، مع توقع شركة تراكتيكا المتخصصة في المعلومات التحليلية عن الأسواق نمو العائدات العالمية من الذكاء الاصطناعي من 643.7 مليون دولار في عام 2016 إلى 36.8 مليار دولار بحلول عام 2025. وبتقليص أجور العمل وتحسين الكفاءة، يتوقع من تجار التجزئة تحقيق مكاسب متعددة من التحول إلى الذكاء الاصطناعي. ومن بين نتائج الاستخدام الأوسع للذكاء الاصطناعي، استخدام أفضل للبيانات الضخمة لتوفير “متاجر ويب” حسب الحاجات الشخصية استناداً إلى معلومات مثل الجنس، والعمر، والمشتريات السابقة وعادات البحث. وفي هذه الأثناء تعتبر برامج “الشات بوت” الروبوتية مثالاً مهماً على الذكاء الاصطناعي قيد الاستخدام. ورغم أنها بدائية جداً في الوقت الحالي، يتوقع للذكاء الاصطناعي، مع تحقيق مزيد من التقدم في التعلم الآلي، أن يمكِّن تلك الروبوتات من الإجابة على الأسئلة الأكثر تعقيداً. هذا وتحقق برامج المساعدة الصوتية رواجاً مماثلاً، إذ تستخدم شركة 1-800-Flowers الأمريكية على سبيل المثال برنامج أمازون أليكسا ومساعد جوجل لتوفير تجربة تسوق مريحة لزبائنها.
وأخيراً، لا بد من التطرق إلى تكنولوجيا الواقع المعزز (AR). يتم استخدام هذه الأداة على نحو مطرد بين تجار التجزئة ولاسيما العاملين في مجال الأزياء والجمال والديكورات الداخلية من أجل تقديم تجربة غامرة بالواقع الافتراضي للمستهلكين الأمر الذي يسمح للعملاء بالتجريب قبل الشراء سواء أكان ذلك ثوباً جديداً أو أريكة لغرفة الجلوس. وقد أثارت هذه الأداة انتباهنا مع الضجة التي أثارتها لعبة بوكيمون جو، ومن بين المتبنين الأوائل لتجربة الواقع المعزز شركات مثل آبل، وجوجل، ومايكروسوفت، وعلي بابا، وإيباي، وأمازون. وتعتبر إيكيا (Ikea) علامة تجارية أخرى طبقت هذه التكنولوجيا بنجاح كبير. ومع مواصلة التجارة الإلكترونية نموها، سيصبح للواقع المعزز دور مهم بازدياد من خلال استخدام تطبيقات كبرى العلامات التجارية ما يعزز تجربة التسوق عبر الإنترنت. وقد أشارت أحد التقارير الصادرة عن شركة ديجي_كابيتال إلى أن عائدات تقنية الواقع المعزز قد تصل إلى 90 مليار دولار بحلول عام 2022 مع تسجيل مكاسب كبيرة في عام 2019.
وهنالك أيضاً اتجاهات عديدة أخرى في بيئة البيع بالتجزئة تستحق المشاهدة بدءاً من الواقع الافتراضي وصولاً إلى تسليم البضائع بواصلة الطائرات من دون طيار. وبلا شك سيكون هنالك المزيد من الابتكارات في صناعة البيع بالتجزئة بفضل التكنولوجيا. وسيتوجب على تجار التجزئة أداء واجباتهم والتخطيط للمستقبل لكي لا يفوتهم القطار.