الدخل الأساسي الشامل: أمنٌ على حساب الغموض في مواجهة الأتمتة (Automation)

يتغير الاقتصاد من حولنا على نحو سريع مدفوعاً بعجلة التقدم التكنولوجي. وقلةٌ هم الأشخاص الذين ينكرون أن ظهور تباشير الثورة الصناعية الرابعة سوف يغير معظم أوجه الحياة كما عهدناها. إلا أن كيفية تأثير ذلك علينا لا يزال موضع أخذٍ ورد. هذا ويقوم رجال الاقتصاد، والعلماء، والحكومات، وجمهرةٌ من المتخصصين الآخرين والمؤسسات بالتعاطي مع القضايا التي تطرحها تلك التغييرات أمام مجتمعنا. ولا يمكن القول بأنه لا توجد قضية أكثر إلحاحاً في هذا الصدد من تأثير الأتمتة والذكاء الاصطناعي (AI)، اللذان يهددان بتحويل ملايين الأشخاص حول العالم إلى عاطلين عن العمل.

فقطاع الصناعات من قبيل تصنيع السلع، والخدمات اللوجستية، والنقل هو الأكثر عرضة للخطر في ظل وقوع الوظائف الأدنى أجراً والأقل مهارة في عين العاصفة. فعلى سبيل المثال، تهدد ابتكاراتٌ مثل سيارات الأجرة من دون سائق، التي تعتبر واقعاً وشيكاً حول العالم، بتحويل وظيفة قيادة السيارة إلى عمل مضي عليه الزمن. ولكم أن تضيفوا إلى سائقي السيارات كلاً من موظفي الاستقبال، وموظفي مواقف السيارات، ووظائف خدمة الزبائن، وغيرها العديد؛ إن لواقع من هذا القبيل تداعيات ضخمة تفضي إلى بطالة ذات نطاق لم نشهده من قبل. ولكن حتى الوظائف ذات المهارة العالية ليست بمنأى في ظل توقع البعض استبدال وظائف بدءاً من التمريض وصولاً إلى القانون على نحو جزئي أو كلي على يد الذكاء الاصطناعي. ووفقاً لبعض التقديرات، ستكون حوالي 50% من الوظائف في الولايات المتحدة على حافة الخطر خلال العقد أو العقدين القادمين[1].

لا بد من النظر إلى تلك التطورات في السياق الراهن الذي تتبلور فيه. وأهم هذه التطورات الفجوة المتنامية والمستفحلة في الدخل. إذ تتركز الثروة أكثر من أي وقت مضى على نحو متنامٍ في يد قلة من الشركات حول العالم، وعلى وجه التحديد تلك الشركات الممتلكة الموارد التكنولوجية التي يُدار عالمنا من خلالها. يضاف إلى هذا السيناريو، وجود مئات الملايين من العاطلين عن العمل حول العالم، وما لذلك من تداعيات وخيمة على الاستقرار السياسي. ويكفي المرء العودة إلى القرنين الماضيين لإلقاء نظرة على أمثلة الآثار المريرة لاقتصاد متداعٍ والدمار السياسي المرافق لذلك- بدءاً من الكساد الاقتصادي الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي انتقالاً إلى ما تلاه من صعود للفاشية على امتداد أوروبا وصولاً إلى أمثلة وقعت حديثاً مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي.

من الحلول التي يؤيدها بعضٌ من ألمع العقول في القرن الحادي والعشرين رداً على تلك التطورات هو ما يعرف بالدخل الأساسي الشامل أو “UBI”. ويقوم المفهوم، الذي ظهر لأول مرة في أواخر القرن الثامن عشر على يد الناشطين السياسيين توماس سبنس وتوماس باين، على حصول كل مواطن على دخل شهري مضمون من الدولة بصرف النظر عن دخله أو مكانته الوظيفية. وقد نالت الفكرة تأييداً في يومنا الراهن من جانب رواد الأعمال الإبداعيين مثل إيلون مسك ومؤسس فيسبوك مارك زوكربيرغ، ويتم تجريب هذه الفكرة حالياً في فنلندا وهولندا وإيطاليا. ولكن، تعود أولى التجارب إلى سبعينيات القرن الماضي في كل من الولايات المتحدة وكندا في بلدة داوفين حيث أظهرت النتائج اجتثاثاً للفقر في غضون خمس سنوات فقط.

وخلافاً للمساهمات المقدمة من برامج الرعاية الاجتماعية، الغاية من الدخل الأساسي الشامل هي أن يتم توزيعه على نحو شامل، ويعتبر بعض الأشخاص أنه من الممكن حلوله مكان برامج الرعاية الاجتماعية غير الفعالة بتاتاً. ومن خلال تقديم دخل ثابت، سيحظى العديد، ولاسيما أولئك المتذيلين السلم الوظيفي، بالحماية من اضطرابات سوق العمل مثل أولئك الأشخاص المرتبطين بعقود غير مقيدة بحد أدنى من ساعات العمل، أو العمال بدوام جزئي، أو العمال المستقلين. نظرياً، يتيح الدخل الأساسي الشامل مرونة أكبر للموظفين إذ يعطي الأفراد إمكانية الدوام لساعات مُقلَّصة. وهذا ما يتيح فرصة القيام بأنشطة أخرى خارج مكان العمل سواء أكان ذلك قضاء الآباء وقتاً أطول مع أطفالهم، أو العمل التطوعي، أو المضي في أنشطة دراسية إضافية. وبدورهم يوفر أولئك الذين يعملون ساعات مُقلَّصة مجالاً أوسع من العمل للآخرين. ولكن الأمر غير محصور بشبكة أمان يوفرها الدخل الأساسي الشامل. فبالنسبة للعديد من رواد الأعمال الصاعدين، يتيح دخل كهذا فرصة إطلاق مشاريع ناشئة ستكون بعيدة المنال لولا ذلك الدخل.

وفي حين يعتبر المتشائمون أن الدخل الأساسي الشامل في جوهره إغداقٌ للمال على الناس من دون مقابل، إلا أن كلفة البطالة والفقر والغموض تضع مخاطر أكبر أمام المجتمع بلا ريب. إن عبء الفقر وكافة الآفات الاجتماعية الأخرى التي تشكل ثمناً باهظاً يتحمله المجتمع عموماً، والتكاليف التي تتحملها مؤسسات مثل أنظمة الرعاية الصحية والعدالة الجنائية لدينا هي أعباء تصعب إدارتها على نحو مطرد. من شأن دخل يغطي الاحتياجات الأساسية ويتيح للناس آفاق أوسع أن يشكل عنصراً جوهرياً في اقتصاد عالمي يطوي فيه الزمن مهناً قديمة، وتُمسي فيه فرص العمل شحيحة جداً.

يحظى الدخل الأساسي الشامل بداعمين على امتداد الطيف السياسي: إذ ينظر إليه “الليبراليون” كوسيلة لإعادة توزيع الثروة ودعم الفئات الأضعف في مجتمعاتنا؛ في حين ينظر إليه “المحافظون” كبديل لأنظمة الرعاية الاجتماعية الملتبسة وغير الفعالة. ولكن تتركز العقبة الأساسية حول كيفية تمويل الدخل الأساسي الشامل. فالثروة موجودة في الاقتصاد، ولكن الميزانيات الحكومية ممتدة على نطاق زمني طويل وزيادات الضرائب لا تحظى بالشعبية. والأهم من ذلك أن الحكومة غير فعالة البتة في توزيع الموارد. في الواقع، يُلقِي رواد الأعمال الاجتماعيون والمحسنون والبرامج السخية للمسؤولية الاجتماعية للشركات تأثيراً على العالم بأسره ويمكنهم أن يكونوا عنصراً أسياسياً في عملية توزيع الدخل الأساسي الشامل دون الحاجة إلى اللجوء إلى ضرائب خاصة أو إضافية.

وفي الختام، قد تخرج من جعبة القطاع الخاص مباشرةً طريقة ربما تكون أكثر فعالية في تمويل وتوزيع الدخل الأساسي الشامل. نعم، فتلك الشركات نفسها التي كانت موزعات ضخمة لرأس المال وتمكنت من جني ثروة هائلة يمكن أن تكون الجهة الأمثل لتمويل وتوزيع الدخل الأساسي الشامل. ففي النهاية، وفي ظل وجود قواعد العملاء الممتدة عالمياً، قد يعتبر أحد المتهكمين أن هذه طريقة جيدة للحرص على امتلاك المستهلكين المال والسيولة في جميع الأوقات بصرف النظر عن مكانتهم الاجتماعية – الاقتصادية.

[1]  في 2013 توقع كارل فراي ومايكل أوزبورن من مدرسة أوكسفورد مارتن بأن حوالي 47% من الوظائف في الولايات المتحدة تواجه خطر الأتمتة “خلال وقت قريب نسبياً، ربما في غضون العقد أو العقدين القادمين”. وقد استشرفا حلول ابتكارات مثل تكنولوجيا القيادة من دون سائق مكان وظائف مثل قيادة سيارة الأجرة، النقل البري، والشحن.

  • التاريخ

    February 15, 2018

  • المؤلّف

    زياد عواد

  • الفئة

    القطاع الاستهلاكي
    التكنولوجيا

رابط المشاركة